سياسة

75 عاما على اتفاقيات جنيف.. غياب المساءلة والإرادة السياسية | أخبار

من بين ألسنة النيران الإسرائيلية المتصاعدة بمدرسة التابعين برفح جنوبي قطاع غزة وهي تحصد أرواح أكثر من مئة شهيد فلسطيني الأسبوع الماضي، تتصاعد الأسئلة بشأن مستقبل القانون الدولي الإنساني وإرادة المجتمع الدولي وقدرته على إنفاذ المساءلة.

فالعالم -كما يبدو- عاجز عن إلزام دولة الاحتلال بوقف الأعمال العدائية أو في الحد الأدنى الالتزام بالمبادئ القانونية الملزمة في أوقات النزاعات المسلحة، وهي: مبدأ التمييز بين المدنيين والعسكريين، ومبدأ التناسب، ومبدأ الضرورة العسكرية التي تقتضي اتخاذ كافة التدابير والاحتياطات اللازمة لتجنب إهدار حق المدنيين في الحياة.

في هذه الأوقات يحيي العالم الذكرى الـ75 لاتفاقيات جنيف الأربع، التي شكلت حجر الأساس للقانون الدولي الإنساني، بتقنينها القواعد التي تحدّ من همجية النزاعات المسلحة، وتلزم أطرافها باحترامها وتطبيقها في كل مكان وزمان.

75 عاما بالتمام والكمال مرت على اعتماد اتفاقيات جنيف الأربع في مثل هذه الأيام من شهر أغسطس/آب 1949، ودخلت حيز النفاذ في أكتوبر/تشرين الأول 1950، وصادقت عليها حتى الآن 194 دولة، فهي أكثر الاتفاقيات الدولية مصادقة، مما يجعل تطبيقها واجبا حول العالم.

هذه الاتفاقيات الأربع تعدّ أحد أهم مصادر القانون الدولي الإنساني الذي ليس من غاياته تحديد مشروعية الحرب من عدمها، بل يسعى إلى تقنين الحماية للأشخاص المدنيين الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية، أو الذين كفوا عن المشاركة في الأعمال العدائية طوعا أو بسبب تعرضهم للأسر أو الاحتجاز أو تعرضهم للإصابة أو المرض. كما يحمي هذا القانون الأعيان المدنية والممتلكات الثقافية، ويُقيد أساليب ووسائل القتال وذلك شأن “قانون لاهاي” صنو “قانون جنيف”.

وقواعد القانون الدولي الإنساني ملزمة لجميع الأطراف المشتركة في النزاع المسلح، بغض النظر عن طبيعة الصراع المسلح ومشروعيته، وبغض النظر عن شرعية أطرافه.

ما قانون جنيف؟

هو مجموعة الاتفاقيات الأربع والبروتكولات الإضافية الملحقة بها، والتي تنبع في جوهرها من القيم الإنسانية والدينية والممارسة العرفية الطويلة التي عرفتها البشرية منذ الأزل، وقد حظيت هذه الاتفاقيات بالرعاية والاهتمام والتقنين منذ منتصف القرن الـ19، وهو بالحساب أمد قريب. وقد سبقته شريعة الإسلام التي بينت قواعد الحروب كافة، وألزمت الجيوش باحترامها وعدم مخالفتها وانتهاكها الذي يستوجب العقوبة في الدنيا والآخرة، لكنها لم تجد من يحولها إلى معاهدات دولية مماثلة وسامية.

فاتفاقية جنيف الأولى تتعلق بتحسين حالة الجرحى والمرضى من القوات المسلحة في الميدان (الحروب البرية)، واتفاقية جنيف الثانية تتعلق بتحسين حال جرحى ومرضى القوات المسلحة في البحار. ثم اتفاقية جنيف الثالثة التي تتعلق بحماية الأسرى، أما اتفاقية جنيف الرابعة فتتعلق بحماية الأشخاص المدنيين.

متى وكيف تم تقنينها؟

يعتبر رجل الأعمال السويسري هنري دونان رائد فكرة أنسنة الحرب في منتصف القرن الـ19 من خلال كتابه “تذكار سولفرينو”، الذي أعده ونشره في بلده سويسرا في 1862، وصوّر فيه للناس تلك المشاهد المروعة لضحايا معركة سولفرينو التي وقعت بشمال إيطاليا في يونيو/حزيران 1859، والتي انتصر فيها الجيش الفرنسي بقيادة نابليون على الجيش النمساوي بقيادة الإمبراطور فرانز جوزيف، وشارك في معركة دامية انتشرت فيها جثث مئات القتلى وشقت الآفاق منها أنات وصرخات آلام آلاف الجرحى والمرضى الذي كانوا في حاجة لمن يضمد جراحهم ويداويهم ويحترم كرامة جثث قتلاهم.

وقد ضمن دونان في كتابه فكرتين، هما: ضرورة وضع معاهدة تلزم الجيوش بتوفير الرعاية لجميع الجنود، وإنشاء جمعية وطنية تقدم المساعدة للخدمات الطبية العسكرية. وقد انبثق عنهما لاحقا فكرتا اللجنة الدولية للصليب الأحمر، واتفاقيات جنيف الأربع.

ففي فبراير/شباط 1863 انعقد أول مؤتمر دولي حوّل فكرة الجمعيات الوطنية إلى واقع، واتفق المشاركون فيه على شارة مميزة لحماية أفراد الوحدات أو الخدمات الطبية للقوات المسلحة والعاملين في مجال الإغاثة والتعرف عليهم، وقد اختير مقلوب العلم السويسري (صليب أحمر على خلفية بيضاء) كأول شارة، تبعته بعد ذلك شارة “الهلال الأحمر”، الذي اعتمدته الإمبراطورية العثمانية في سبعينيات القرن الماضي، ثم شارة البلورة الحمراء التي تم اعتمادها في 2005 لتستخدمها الدول التي لا ترغب في شعارات ذات مدلول أو تصورات دينية.

كيف تمنع اتفاقيات جنيف الأربع الانتهاكات الجسيمة؟

شكلت اتفاقيات جنيف الأربع الأساس لحماية الحقوق الأساسية لضحايا النزاعات المسلحة من المخالفات الجسيمة، والتي تضمنتهما المادة (50) من اتفاقية جنيف الأولى والمادة (51) من اتفاقية جنيف الثانية، بأنها أحد الأفعال التالية التي إذا اقترفت ضد أشخاص محميين أو ممتلكات محمية بالاتفاقية: “القتل العمد، والتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، بما في ذلك التجارب الخاصة بعلم الحياة، وتعمد آلام شديدة أو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية أو بالصحة، وتدمير الممتلكات أو الاستيلاء عليها على نطاق واسع لا تبرره الضرورات الحربية، وبطريقة غير مشروعة وتعسفية”.

وأضافت المادة (130) أفعالا أخرى للمخالفات الجسيمة المذكورة أعلاه وهي: “إرغام أسير الحرب على الخدمة في القوات المسلحة بالدولة المعادية، أو حرمانه من حقه في أن يحاكم بصورة قانونية وبدون تحيز وفقا للتعليمات الواردة في هذه الاتفاقية”. كما نصت المادة (49) على أن تفرض الدول الأطراف عقوبات جنائية على من يقترفون أو يأمرون باقتراف المخالفات الجسيمة الواردة في الاتفاقية الأولى، وتقديمهم للمحاكمة أيا كانت جنسيتهم.

تعد الانتهاكات الجسيمة للاتفاقية والبروتوكول الإضافي الأول بمثابة جريمة حرب.

نص البروتكول الإضافي الأول الملحق باتفاقية جنيف الأربع صراحة على مفهوم “الانتهاكات الجسيمة” في المادة (85/1) منه، وعددها في الفقرة الثانية بأنها الأعمال التي ترتكب ضد أشخاص هم في قبضة الخصم وتشملهم حماية المواد (44) و(45) و(73) من البروتوكول نفسه، أو اقترفت ضد الجرحى أو المرضى أو المنكوبين في البحار الذين ينتمون للخصم، أو أفراد الخدمات الطبية أو الهيئات الدينية، أو ضد الوحدات الطبية أو وسائل النقل الطبي التي يسيطر عليها الخصم.

كما نصت الفقرة 3 من المادة (85) على أن اقتراف أي فعل من الأفعال أدناه عن عمد وسبب وفاة أو أذى بالجسد أو بالصحة يعتبر بمثابة انتهاكات جسمية، ومنها:

  • جعل السكان المدنيين أو الأفراد هدفا لهجوم عشوائي قد يصيب المدنيين أو الأعيان المدنية، رغم معرفة بأن هذا الهجوم يسبب خسائر بالغة في الأرواح أو إصابات للأشخاص المدنيين أو أضرارا للأعيان المدنية، كما جاء في الفقرة 1/3 من المادة (57).
  • شن هجوم على الأشغال الهندسية أو المنشآت التي تحوي قوى خطرة، رغم معرفة بأن هذا الهجوم يسبب خسائر بالغة في الأرواح أو إصابات للأشخاص المدنيين، أو أضرارا للأعيان المدنية.
  • اتخاذ المواقع المجردة من وسائل الدفاع، أو المناطق المنزوعة السلاح هدفا للهجوم.
  • اتخاذ شخص ما هدفا للهجوم، رغم معرفة بأنه عاجز عن القتال.
  • الاستعمال الغادر للعلامة (الشارة) المميزة للصليب الأحمر أو الهلال الأحمر أو الأسد أو الشمس الأحمرين أو علامات أخرى للحماية تقرها الاتفاقيات أو البروتوكول.

كذلك نصت الفقرة الرابعة من المادة (85) من البروتوكول الأول نفسه على أن الأفعال التالية تشكل انتهاكا جسيما:

  • قيام دولة الاحتلال بنقل بعض سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها، أو ترحيل أو نقل كل أو بعض سكان الأراضي المحتلة داخل نطاق تلك الأراضي أو خارجها، مخالف للمادة (49) من اتفاقية جنيف لحماية الأشخاص المدنيين.
  • كل تأخير لا مبرر له في إعادة أسرى الحرب أو المدنيين إلى أوطانهم.
  • ممارسة التفرقة العنصرية (أربتهايد) وغيرها من الأساليب المبنية على التمييز العنصري والمنافية للإنسانية والمهينة، والتي من شأنها النيل من الكرامة الشخصية.
  • شن حملات على الآثار التاريخية وأماكن العبادة والأعمال الفنية التي يمكن التعرف عليها بوضوح.
  • حرمان شخص تحميه الاتفاقيات من حقه في محاكمة عادلة.

ما الذي يجعل الانتهاكات الجسيمة مستمرة، رغم أن جل دول العالم صادقت على اتفاقيات جنيف الأربع والبروتكولات الإضافية الملحقة بها؟

أنشأت اتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكولات الملحقة بها آليات لضمان تنفيذ قواعد القانون الدولي الإنساني، وعلى رأسها الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وتتكون من:

  1. اللجنة الدولية للصليب الأحمر “آي سي آر سي” (ICRC)، ومقرها جنيف، وهي المعنية بالاضطلاع بالمهام الإنسانية التي تخفف معاناة ضحايا النزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية والإضرابات والتوترات الداخلية، وتسهم في حماية حياتهم وكرامتهم وتزويدهم بالمساعدات الغذائية والمياه النظيفة والمأوى والرعاية الصحية، وتعزيز الروابط العائلية وزيارات السجون والبحث عن المفقودين إلخ.. إلى جانب دور رئيسي تقوم به اللجنة وهو تعزيز وتطوير القانون الدولي الإنساني ومساعدة الحكومات على إدماجها في السياسات والممارسات.
  2. الجمعيات الوطنية للهلال الأحمر والصليب الأحمر.
  3. الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر “آي إف آر سي” (IFRC).
  4. اللجنة الدولية لتقصي الحقائق التي نصت عليها المادة (90) من البروتوكول الإضافي الأول لتختص بالتحقيق في الوقائع المتعلقة في ادعاء وقوع انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف والبروتكولات الملحقة بها، وقد تشكلت هذه اللجنة في العام 1990، لكنها لا تستطيع التحرك أو نشر استنتاجاتها التي تبقى قيد السرية إلا بعد موافقة جميع الأطراف المعنية على النشر.
  5. الدولة الحامية وهي الدولة المحايدة التي تتكفل برعاية مصالح أطراف النزاع، وتبذل المساعي الحميدة من أجل تسوية الخلافات التي ترى فيها مصلحة الأشخاص المحميين، كما يمكنها تقديم اقتراحات بعقد اجتماعات ممثليها مع أطراف النزاع في حالة عدم اتفاقهم على تطبيق أو تفسير أحكام اتفاقية جنيف الرابعة.

كما تم تأسيس اللجان الوطنية للقانون الدولي الإنساني في أكثر من مئة دولة بمساعدة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بغية العمل على تنفيذ قواعد القانون الدولي الإنساني، ونشر ثقافته على المستوى الوطني، وتقديم المشورة للحكومة.

ماذا بعد 75 عاما على اعتماد اتفاقيات جنيف الأربع؟

تعتبر حادثة قصف مدرسة التابعين مثالا صارخا على الانتهاك الجسيم لقواعد القانون الدولي الإنساني الراسخة في اتفاقيات جنيف الأربع والبروتكولات الملحقة بها والتي استعرضناها باستفاضة فيما سبق، كما أن غياب المساءلة والإرادة السياسية التي أشرنا لها في عنوان المقال يضع النظام الدولي أمام المحك، وذلك لأن تحقيق العدالة يرتبط ارتباطا وثيقا بعنصرين أساسيين، هما القدرة والرغبة.

والقدرة هي أن تتوفر التشريعات والنصوص القانونية التي تجرم فعل الانتهاك الجسيم وتتحدد بوضوح العقوبات الرادعة للمتهمين بارتكاب الجرائم. أما الرغبة فتتمثل في الإرادة السياسية الدولية التي ينبغي أن تنعقد لملاحقة مرتكبي الجرائم وضمان جلبهم أمام القضاء وتنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم في حال إدانتهم.

ويشاهد العالم كيف أن محكمة العدل الدولية، الجهاز الأعلى في الأمم المتحدة، قد بدأت النظر في مدى انتهاك إسرائيل اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية، وتحدثت المحكمة بوضوح في رأيها الاستشاري عن أن احتلال إسرائيل الأرض الفلسطينية المحتلة -قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية- غير مشروع مثل نظام الاستيطان المرتبط به وضم الأراضي واستغلال الموارد الطبيعية. وألزمت المحكمة إسرائيل بإنهاء احتلالها، وتفكيك مستوطناتها وتقديم التعويضات للضحايا الفلسطينيين وتسهيل عودة النازحين.

وقد وصف خبراء أمميون ذلك بالإنجاز التاريخي بالنسبة للقانون الدولي وللفلسطينيين أصحاب المصلحة وضحايا الاحتلال وجرائمه. لكن هذا الرأي الاستشاري رغم أهميته واعتراف الأمم المتحدة به فإنه سيظل حبرا على ورق ما لم تتبن الدول الأطراف مواقف قانونية تدعم الامتثال الفوري لمقتضيات القرار.

إذن، تطبيق القواعد الدولية الأمرة يتطلب إرادة سياسية دولية، وقد وجهت رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر بمناسبة مرور 75 عاما على اعتماد اتفاقيات جنيف الأربع نداءً لجعل تلك الاتفاقيات أولوية سياسية.

ووفقا لما تقدم، فقد أثبتت الممارسة أن أبرز التحديات المعاصرة التي تعترض تطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني تتمثل في ضرورة أن تلتزم أطراف النزاع المسلح التزاما تاما باتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية والتقيد التام بها، والحد من مخاطر استخدام منظومات الأسلحة الذاتية التشغيل، وضمان وصول المساعدات الإنسانية للضحايا، وتجنيبهم التعرض لمخاطر التجويع ونهب وسلب ممتلكاتهم، وكذلك ازدراء العديد من أطراف الصراع لواجباتهم الناشئة بموجب مصادقتها على اتفاقيات جنيف الأربع.

وهذه التحديات تكررت الإشارة إليها في المؤتمر العالمي للصليب الأحمر والهلال الأحمر المنعقد بجنيف في سويسرا من 26 إلى 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2007، بوصفها السبب الرئيسي وراء المعاناة أثناء النزاعات المسلحة. وهذه الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني لا تعود إلى الإخفاق في تنفيذ القواعد القانونية القائمة، بل إلى عدم وجود إرادة سياسية.

والسؤال يظل كما هو: ما الفائدة التي يجنيها ضحايا النزاعات المسلحة في قطاع غزة وغيره من إحكام صيغة القواعد وملاءمتها إن لم تكن هناك إرادة سياسية موجودة وفاعلة لتطبيقها؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى