سياسة

وُلد مع قيام إسرائيل وآخر أمنياته زوالها.. حوار مع سيون أسيدون | سياسة

شعرت أن اللقاء اقترب من نهايته، فقلت: “ما أمنيتك؟”، سائلا الشيخ السبعيني، المنحدر من عائلة عريقة من يهود المغرب، الذي يلبس قميصا أزرق مكفوف الأكمام، وقد لف على عنقه وشاحا منقوشا عليه خطوط الكوفية الفلسطينية وعلم فلسطين، وجعله شعارا مما يلي جسمه تحت القميص في حميمية ظاهرة وتعاطف تام مع القضية. كان يبدو كمن يستعد للسير في مظاهرة أو وقفة احتجاجية.

متنقلا بنظراته بيني وبين الشاطئ أمامنا، قال بصوته الخفيض “هي أمنية أعرف أنها ستتحقق، وأعرف أني لن أراها بأم عيني، لكني واثق بأن أصدقائي والجيل القادم سيرى تحرر فلسطين!” كانت الشمس تحيينا تحية أخيرة وهي تستعد للغطس في المحيط الأطلسي الممتد أمامنا ونحن جلوس في حديقة فندق أفانتي في مدينة المحمدية، بالمغرب.

ولد سيون أسيدون في أكادير 1948. حين أخبرني بعام مولده وأنا أمسح العرق عن جبيني بعد أن مشيت تحت شمس الصيف عدة كيلومترات من محطة القطار إلى الفندق، لأن بطاقتي البنكية لم تعمل، ولم أكن أملك أجرة التاكسي، توقفت يدي على جبهتي حين سمعت المفارقة. “في أي شهر؟” سألته شاخصا ببصري إليه. قال بابتسامة عريضة -كمن يعرف أن دهشتي ستزداد- “في مايو/أيار!”، ثم أردف، ولكن ليس في يوم 14 وإنما في يوم 15 مايو/أيار.

قبل مولد أسيدون بيوم واحد، وقف ديفيد بن غوريون رئيس المنظمة الصهيونية ليعلن قيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين، بعد نهاية الانتداب البريطاني. سيكرس أسيدون بعد ذلك عمره لمناهضة المشروع الصهيوني، ويبشر بنهايته.

سألته، وأنا أرتشف من كأس الليمون الممزوج بالنعناع الذي تعلقت فيه رائحة الثلاجة لطول بقائه فيها، “هل تشاركك عائلتك موقفك النضالي من القضية الفلسطينية؟”.

ابتسم ابتسامة عذبة، غابت فيها عيناه الغائرتان، وقال ببهجة وكأنه يعلن عن انتصار: “نجحت في أن أجعل والدي على الحياد! أما أختاي فداعمتان للقضية الفلسطينية”.

بادرته متحديا، وهو يفتح هاتفه ليريني صور المظاهرات التي عمل على تنظيمها منذ بداية حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة في عدة مدن مغربية.

  • ما الذي يجعلك مؤمنا بأن المشروع الصهيوني والاحتلال الإسرائيلي سينتهي، أقصد أني مؤمن لدي سردية دينية تجعلني أؤمن باستعادة الأرض المباركة، لكنك كما فهمت منك، غير مؤمن بأي دين، فمن أين يأتي يقينك هذا بزوال المشروع الصهيوني؟

لأنه ضد المنطق! هذا الاستعمار والمجتمع الفاشي لا يمكن أن يستمرا.

  • ولكن أميركا قامت على احتلال وإبادة، وبقيت. وها هي اليوم أقوى دولة في العالم! قلت مستدركا.

لا يمكن أن يتكرر سيناريو الولايات المتحدة، نحن في القرن الـ21 وهناك شعب مقاوم ومتمسك بأرضه، هذا شعب لا يمكن أن يقهر. بالإضافة إلى أن ثمة قوى معارضة لوجود الكيان في الإقليم. كما أن الرواية الصهيونية قد انتهت تماما!

ينشط أسيدون في الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، كما أنه أحد مؤسسي حركة مقاطعة إسرائيل في المغرب “بي دي إس” (BDS)، التي تأسست عام 2010. نشأت حركة مقاطعة إسرائيل “بي دي إس” عام 2005 وهي حركة فلسطينية المنشأ عالمية الامتداد، تسعى لمقاومة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني ونظام الفصل العنصري. قال لي أسيدون “لم تكن حركة (بي دي إس) معروفه في العالم العربي. وهي تقوم على فكرة عبقرية”، سكت ونظر إليّ لأسأله لماذا يصفها بالعبقرية، فلما لم يجد مني سوى الإنصات سأل نفسه. “لماذا؟” وأجاب:

“لأنها تقوم على 3 مبادئ بسيطة: وهي وقف الاستيطان وتفكيك المستوطنات، ووضع حد لنظام الفصل العنصري”، ثم استطرد، “بالمناسبة لقد سبقنا نحن في حركة المقاطعة، المؤسسات الحقوقية بهذا التصنيف للاحتلال. وثالثا: حق عودة اللاجئين. إذا تحققت هذه الأهداف فقد فشل المشروع الصهيوني”.

  • هل يمكن أن ينتهي المشروع الصهيوني بالمقاطعة الاقتصادية؟ سألته مشككا.

تجمع “بي دي إس” حولها فاعلين دوليين مؤثرين، وهناك طرق أخرى من الكفاح المسلح يقوم بها غيرنا. لكن المهم أن الحركة الصهيونية تعتبر “بي دي إس” عدوا إستراتيجيا. ونحن نحقق تطورا مستمرا. أصبحت حركة “بي دي إس” في 42 ولاية من الولايات الأميركية. وما يحصل في الجامعات الأميركية هو نتيجة عمل الحركة، قال الجملة الأخيرة بفخر لم يستطع إخفاءه.

  • هل تنسب كل هذا الحراك الطلابي لمؤسستكم؟

نعم. الشباب الجامعي متشبع بأفكار حركة المقاطعة، وقادة الحراك إما شباب فلسطيني متشبع بهذه الأفكار، أو مجموعات يهودية موالية لحركة المقاطعة مثل منظمة الصوت اليهودي من أجل السلام.

  • حدثني عن عائلتك؟

“جدي من جهة والدتي من العرائش، وجدي من جهة والدي من مراكش”، لم أستطع أن أفوت طربي للسجعة غير المتكلفة، فقاطعته قائلا “ياسلام!”

أكمل متبسما “التقى والدي ووالدتي في مدينة آسفي حاضرة المحيط. وحين قررا الزواج انتقلا إلى الاستقرار في أكادير”.

  • هل نشأت في عائلة متدينة؟

كانت عائلتي ليبرالية مع شيء من المحافظة على طقوس الأعياد اليهودية، كان والدي يملك محلا لقطع غيار المحركات والسيارات، لم نكن أثرياء، كنا من الطبقة الوسطى. ولم أر صرامة في أيام السبت كما تعيش بعض العوائل اليهودية المتدينة.

  • كيف كان اندماجكم في المجتمع؟

كنا جزءا من الشعب، كنت مغربيا في المدرسة والحي والجامعة، المجتمع المغربي مجتمع منفتح، بقيت أجهل كل شيء عن فلسطين حتى أيقظتني حرب 67.

  • حين قامت إسرائيل، هل سمعت بعائلات مغربية هاجرت إليها؟

“بالتأكيد” أجاب باقتضاب؟

“لم تعجب والدي الفكرة”، أجاب على السؤال باستياء وكأنه سؤال مقلوب، “لماذا يسافر المرء من بلده الذي ينتمي إليه؟ في آخر عمر والدي، انتقل إلى العيش في فرنسا لضرورة العلاج، ولكنه أوصى بأن يدفن في المغرب، وقد كان”.

  • هل لديك معرفة بأصول العائلة؟ هل هي من العائلات القادمة من الأندلس؟

“هناك روايتان، روايتي ورواية أختي! أيهما تحب أن تسمع؟” قالها بفصحى واضحة.

كلتيهما، أجبته بحماسة.

فتابع: “رواية أختي تقول إن أصولنا من إسبانيا كما يشي اسم العائلة أسيدو، وبالتحديد من مدينة شذونة (بالإسبانية: Medina-Sidonia)‏ وهي إحدى مدن مقاطعة قادس، التي تقع في منطقة الأندلس جنوب إسبانيا. وهي مدينة مغربية” قالها بمرح وابتسامة عريضة.

  • هذه رواية أختك، فما روايتك؟

إننا من الأسر المغربية من الأطلس الكبير.

صحح لي قبل أن أتم الكلمة: “من الأمازيغ”.

جاءت النادلة التي تأخرت في الترحيب بنا وأخذ طلبنا، ولست أحملها المسؤولية تماما فقد اخترنا طاولة نائية عن المقهى تطل على المسبح، المنفتح على الشاطئ من ورائه.

ماذا تشربان؟

مع هذا الحر، أريد شيئا باردا، هل عندكم عصير ليمون بالنعناع؟

ثم أقبلت على أسيدون، فقال بالدارجة المغربية بعد أن مسح على خده الحليق، مفكرا، “أعطيني واحدا من الليمون”.

حين سمعت طلبه تنبهت أني طلبت برتقالا مع النعناع، فقلت لها، “أقصد الليمون المشرقي، وليس ليمونكم الذي تقصدون به البرتقال”. فابتسمت وقالت لي: “تريد الحامض؟”، قلت “نعم أريد عصير الحامض مع النعناع”.

  • التفتُ لأسيدون مستأنفا حديثنا، أي الروايتين كان يؤيدها الوالد؟

“كان يميل إلى رواية أختي” أجاب أسيدون.

بقي وضع اليهود في المغرب يمثل مشكلة للسردية الصهيونية، التي تدعي تعرض اليهود للاضطهاد في بلدان عربية وإسلامية، فيهود المغرب لا ينسون الموقف التاريخي للملك محمد الخامس حين ضاقت أوروبا بيهودها في حكم النازية، فقد فرضت ألمانيا على حكومة فيشي الفرنسية قيودا على حركة وحريات اليهود في فرنسا، فاستكانت حكومة فيشي لطلبات النازية. ولكن الأمر لم ينتقل إلى المغرب الذي كان تحت الوصاية الفرنسية حينئذ، فعندما طالب النازيون بالتضييق على اليهود المغاربة وتسليم بعضهم، جاء جواب محمد الخامس حاسما: “لا أوافق أبدا على القوانين الجديدة المعادية لليهود، وأرفض الاشتراك في إجراءات غير مرضية، وأريد أن أخبركم أن أفراد الطائفة اليهودية سيظلون كما كانوا في الماضي، تحت حمايتي، وأرفض أن يكون هناك أي تمييز بين رعاياي”.

دخل أسيدون الجامعة ولكنه لم يتخرج منها، فقد اعتقلته الحكومة قبل تخرجه عام 1972، بعد مشاركته في تأسيس حزب اليسار الجديد. جاء اعتقاله في فترة حساسة من تاريخ المغرب، أساء المخزن الظن فيها بكل معارض، فقد وشى به بعض زملائه في الجامعة إلى الحكومة بين انقلابي الصخيرات في 1971، وأوفقير 1972، فحصلوا على عقوبات مشددة، حكم على أسيدون الشاب بـ15 عاما.

  • كيف كان سجنكم؟

سجنت في القنيطرة، ومقارنة بتزمامرت كان فندق 5 نجوم.

  • وكم بقيت في السجن؟

“ما تيسر”، أجاب باقتضاب، وكأنه يحاول أن يطرد ذكرى السجن من ذاكرته.

  • كم؟ كررت السؤال بفضول الصحفي.

12 سنة ونصف سنة ويوم!

  • 12 عاما! رددت مستغربا.

فأعاد الرقم وهو يضغط على كل مقطع فيه: “12 عاما ونصف العام ويوم!” تلك سنون عمره، ولم يرغب في التعامل معها كأرقام.

  • هل تبت من العمل السياسي بعد خروجك؟ سألته جادا بنبرة الممازح.

“لا، خرجت وعملت في العمل الحقوقي، أنا من مؤسسي ترانسبارانسي المغرب لمحاربة الفساد، وهي طريقة أخرى…”، ولم يكمل الجملة المفهومة، فجازيته بتبسم على ابتسامته.

  • هل فكرت بكتابة مذكراتك؟

“أحلم أن يكون لدي وقت لكتابتها”.

  • كيف استقبلت حدث السابع من أكتوبر/تشرين الأول؟ سألته بعد أن أنهى عصيره برشفات سريعة.

بفرحة كبيرة. أظنه سيبقى حدثا يدرس في الكليات العسكرية، لأنه جمع البطولة والشجاعة، واستطاع أن يعيد للقضية حضورها.

  • كيف يفسر غير المؤمن هذا الصمود بعيدا عن عنصر الإيمان الديني المشبع بالتضحية؟

لا شك أن الإيمان الديني يدفع الإنسان لهذه التضحية والصلابة، ولكن الإيمان ليس محصورا في الدين، يمكنك أن تؤمن بمبادئ عامة مثل العدالة وتبذل روحك في سبيلها، لا تنس أن الجبهة الشعبية أيضا تشارك في هذه الحرب.

  • نعيش اليوم حالة ترقب لقيام حرب إقليمية، هل تظن أن نتنياهو سيتجرأ على حرب مفتوحة؟

“لا يمكن التنبؤ بأفعال الحمقى”، أجابني ضاحكا.

في سيارته، حين أخذني ليوصلني إلى محطة القطار، سألته وأنا أنظر إلى صناديق صغيرة لقطع الغيار، التي تناثرت في سيارته، من الشركة التي ورثها عن أبيه:

  • ما خطة التقاعد لرجل يمشي مشيا حثيثا إلى الـ80 عاما؟

لا أدري، أحب أن أتقاعد وأعود إلى بيت جميل في الأطلس الكبير. هذا ما أفكر فيه، لكني لا أعلم متى سيكون هذا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى