“خاوة”.. العالم كما يراه يحيى السنوار | سياسة
عندما تولت الضابطة الكبيرة في جيش الاحتلال أوريت أداتو مسؤولية مفوضة مصلحة السجون في إسرائيل في منتصف عام 2000، كانت السجون الإسرائيلية تضم قرابة 600 أسير فلسطيني، وكان السنوار أحد قادتهم، ولعله كان أخطرهم.
بعد أشهر، في سبتمبر/أيلول، ستندلع انتفاضة الأقصى، وخلال الأشهر والسنوات التالية ستعتقل إسرائيل آلاف الفلسطينيين، من بينهم قادة الانتفاضة والفصائل الفلسطينية الذين تتهمهم بقيادة العمليات الفدائية وتنظيم المقاتلين وقتل إسرائيليين، مثل مروان البرغوثي، أمين سر حركة فتح في الضفة الغربية، وعباس السيد، قائد كتائب القسام في الضفة الغربية، الذي تصفه إسرائيل بأنه أخطر أسير فلسطيني لديها، وعبد الله البرغوثي، صاحب أطول حكم في السجون الإسرائيلية، وأحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
يدعي ممثلو الاحتلال أنهم رأوا الوجوه الجديدة للأسرى أكثر أهمية من يحيى السنوار، رغم أن منهم تلاميذه الذين كانوا بدؤوا العمل في المقاومة تحت إمرته، ولعل ذلك ما دفع إسرائيل إلى التعامل معه بشكل أقل حدة ممن هم في طبقته من الأسرى، خاصة أنه لم يُتهم بقتل إسرائيليين بشكل مباشر، بل فلسطينيين متعاونين مع الاحتلال، الذين هم أقل وزنًا وأخف قدرًا من أي إسرائيلي قد تصيبه المقاومة.
تدرك إسرائيل الآن مدى خطل تقييمها، وأن السنوار كان أخطر من يُفرج عنه، لأنه فضلًا عن إيمانه بالمقاومة بكل صورها، فما من أحد من قادة حماس عرف إسرائيل مثلما عرفها السنوار. ولكن يبدو أن السجان الإسرائيلي كان غارقا في فكرة براءة السنوار من دم المحتل، فلم يقرأ شخصيته على حقيقتها.
لذلك، عندما بدت على السنوار أعراض مرض خطير، وبدأ الأسرى الفلسطينيون في تنظيم إضرابات مهددين بعصيان قد يقود إلى انتفاضة سجون عارمة بسبب رمزية الأسير المريض، لم ير قادة الاحتلال في علاجه وإنقاذ حياته تهديدًا وجوديًّا.
فنظريًّا، مهما كانت الرعاية الطبية التي سيحصل عليها السنوار، لم يكن من المفترض أن يخرج من السجن حيًّا. فقد حُكم عليه بالسجن 451 عامًا، كما أن قتله بالإهمال الطبي سيتسبب في قلق لا داعي له داخل السجون وخارجها، وهو ما كان أكده الشيخ أحمد ياسين في حوار نهاية التسعينات حين تحدث عن قلق السلطات الإسرائيلية من موت الزعماء الفلسطينيين في السجون نتيجة الإهمال الطبي.
لعل هذا الخوف هو ما جعل قادة الاحتلال يؤثرون علاج السنوار وتوفير رعاية طبية ملائمة رغم اتهامهم له بالتحريض على خطف جنود وقتلهم، بل وتأسيس الجهاز الأمني للحركة والمساهمة في تأسيس الجناح العسكري الذي قاده كثير من رفاقه وطلابه!
في عام 2004، بدأت تظهر على السنوار أعراض ورم دماغي، وبعد فحوصات تقرر إجراء عملية له. يقول يوفال بيتون، وهو طبيب عمل في السجون الإسرائيلية عشر سنوات، قبل أن ينتقل للعمل في الاستخبارات ثم يصبح لاحقًا رئيس شعبة الاستخبارات في مصلحة السجون، إنه كان من بين الأطباء الذين عالجوا السنوار.
وأوضح بيتون أن الإسرائيليين أجروا عملية جراحية دقيقة استغرقت سبع ساعات في الطابق الثاني من مستشفى سوروكا في بئر السبع، عاد بعدها السنوار إلى السجن، الذي كان قد قضى فيه بالفعل أكثر من خمس عشرة سنة، ليكمل ما بدأه من عمل مع الأسرى وليتم فترة محكوميته التي لم يبق منها إلا أربعة قرون فقط!
لكن ماذا وراء هذه المدد الخيالية التي يحرص الاحتلال على الحكم بها على المقاومين؟ تصرح الضابطة أداتو، التي تولت مسؤولية السجون الإسرائيلية حتى عام 2003، في أحد اللقاءات بالقول إن المحكوم عليهم بالسجن مدى الحياة لا يملكون إلا الوقت الطويل، وهو الذي يسيطر عليه السجان.
ورغم أن المسجونين بلا فرصة في الحرية قد يسقطون في هاوية اليأس، وإعادة استكشاف هويتهم، وتقصير آمالهم في المستقبل، لم يكن السنوار كذلك. وحتى نفهم كلام الضابطة، علينا أن ندرك أن السجون الإسرائيلية مصممة كي تنتج روحًا من اليأس والعدمية على مقاس جسد السجين لضمان أن يبقى الأسير مستكينا طيّعا تحت سلطة السجان.
دفن الروح الأصلية للسجين، ثم استبدالها بأخرى عدمية يائسة هي أخطر مراحل الأسر، وهنا لا يكون أمام السجين العقائدي سوى المقاومة الروحية، والتمسك بأهداب الأمل، وطالما كان الأمل يقظا عند الأسير يبقى السجان في خطر. وبحسب الضابطة كان السنوار من الصنف المقاوم، وكان أبعد السجناء عن اليأس!
سُجن السنوار لأول مرة عام 1982. في هذه المرحلة، أراد الأسرى المنتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين التمايز عن المعتقلين الآخرين بالتأكيد على هويتهم الإسلامية، وهو ما أثار غضب الأسرى من منظمة التحرير الفلسطينية، الذين لم يعجبهم أن يُصنف الأسرى خارج إطار المنظمة. اعتُقل السنوار في هذا التوقيت عندما كان في التاسعة عشرة من عمره، طالبًا بغزة، بعد أن سافر بصحبة أعضاء من مجلس طلاب الجامعة الإسلامية، إلى مخيم جنين لزيارة عدد من النساء الفلسطينيات اللاتي تعرضن لمحاولة تسميم من قبل الإسرائيليين.
ردًّا على هذه الزيارة، قُبض على السنوار، قبل أن يُفرج عنه نحو أسبوع ليُعتقل مرة أخرى ويوُضع ستة أشهر قيد الاعتقال الإداري بلا تهمة أو محاكمة، وتقول مصادر إن السنوار تعرف في هذه المرحلة على صلاح شحادة، الذي كان مسؤولًا عن عمل الجهاز الأمني في حركة الإخوان المسلمين في غزة في هذا التوقيت، وهو العمل الذي بدأ بسيطا ومركزًا بالأساس على رسائل التوعية الأمنية. ثم تطور عمل الجهاز الأمني، وعاش شحادة ليقود كتائب القسام حتى استشهاده عام 2002.
خرج السنوار من السجن ليعود إليه مرة أخرى، ففي عام 1985 وبسبب نشاطاته مع الحركة الإسلامية التي أسسها الشيخ أحمد ياسين، اعتُقل وحُكم عليه بالسجن ثمانية أشهر. وفي هذه المرحلة، حصل على ثقة الشيخ ياسين في السجن كما تعتقد المصادر الإسرائيلية، غير أن الحقيقة التي يرويها نهاد الشيخ خليل، المؤرخ وأستاذ التاريخ بالجامعة الإسلامية في غزة، أن السنوار تمتع بهذه الثقة مبكرًا من خلال عمله في الحركة الطلابية، التي اهتم بها الشيخ وتابع أعمالها بشكل مباشر، وهو ما يؤكده السنوار في روايته “الشوك والقرنفل“، التي كتبها في السجن لاحقًا، ويمكن اعتبارها سيرة ذاتية له في الكثير من جوانبها خصوصا بطلها المسمى إبراهيم.
بعد خروجه من السجن، أكد السنوار جدارته بثقة الشيخ أحمد ياسين، الذي كان قد خرج من السجن في مايو/أيار ضمن عملية تبادل بتخطيط من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (القيادة العامة). ورغم أن الشيخ ياسين كان قد صرح للجزيرة بأنه قد ابتعد عن تنظيم الإخوان مدة عام بعد الإفراج عنه، حتى يحيّد عيون الاستخبارات الإسرائيلية التي كانت ترقبه كظلّه، نعلم الآن أنه كلف السنوار بالتعامل مع العملاء.
فمن خلال تأسيسه لجهاز الأمن والدعوة “مجد”، الذي تخصص في تأهيل أبناء الحركة الإسلامية أمنيًّا، والإيقاع بالعملاء والمتعاونين مع الاحتلال، استطاع السنوار، وهو بعد في الثالثة والعشرين من عمره، أن يجعل من نفسه رقمًا صعبًا في المعادلة الفلسطينية، وهو ما حدا بالاحتلال إلى اعتقاله للمرة الثالثة والأخيرة في يناير/كانون الثاني عام 1988، بعد شهر واحد من اندلاع الانتفاضة الأولى والتأسيس الفعلي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).
لأكثر من عام، لم يستطع الاحتلال الحصول من السنوار على أي معلومات عن دوره في المقاومة. يقول ميخا كوبي، المدير السابق للتحقيقات في جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، شين بيت، الذي قضى أكثر من 150 ساعة في استجواب السنوار، أنه أخبره بتفضيله للموت شهيدًا على أن يتكلم!
وفي عام 1989، ومع تصاعد وتيرة الانتفاضة، اعتقلت السلطات الإسرائيلية الشيخ المؤسس أحمد ياسين، مع مئات من أعضاء الحركة الناشئة، فتحدث بعض المعتقلين عن دور يحيى السنوار، فأدرك الاحتلال قيمة الصيد الثمين الذي بين يديه. ويدّعي كوبي في تصريحات لصحيفة التايمز البريطانية أنه طلب من الشيخ أحمد ياسين أن يأمر السنوار بالإجابة عن أسئلة المحقق بصدق، وأن ياسين استجاب لطلبه بحسب زعمه.
لاحقًا، يزعم كوبي، أن السنوار اعترف بقتل اثني عشر عميلًا لإسرائيل، ويدعي الإسرائيليون أن نص التحقيقات معه يحوي تفاصيل عن الطريقة التي قتل بها السنوار عملاء بأعيانهم وأسمائهم. وفي النص، يقول السنوار إنه بعد أن قتل عميلًا، على سبيل المثال، قام بتكفينه ودفنه، وإنه لم يقتله إلا بعد أن اعترف بجريمته، وبأنه يستحق ذلك المصير جزاء خيانته.
في تصريحات أخرى لصحيفة الفاينانشال تايمز، قال ميخا كوبي إن السنوار قتل ثلاثة من المسجونين المتعاونين مع الاحتلال، الذين يشتهرون بلقب “العصافير”، وفعل ذلك بشفرة الحلاقة، وهو ما جعل إدارة السجن تضعه في العزل الانفرادي سنوات عانى فيها السنوار أمراضًا متعددة.
لكن تظل شهادة رجل الاستخبارات الإسرائيلي مجروحة، لا لكون السنوار غريمه اللدود الذي يقول إن الإفراج عنه “أسوأ خطيئة في تاريخ دولة إسرائيل” فحسب، بل لأن القصص التي يحكيها عنه لم تقع، وتبدو ملفقة لشيطنة السنوار، وتنقلها الصحف العالمية رغم عصيانها على التصديق، مثل تلك القصة التي يدّعي فيها أن السنوار أمر شقيق أحد العملاء بدفن أخيه حيًّا، ليس ذلك فحسب، بل إنه أجبره على إهالة التراب عليه باستخدام ملعقة طعام! وهي قصة تستدعي السخرية والضحك أكثر مما تدفع إلى الرعب من وحشية السنوار المزعومة، وهو الأمر الذي يؤكده أسرى محررون ومصادر أخرى على معرفة لصيقة بواقع السجون الإسرائيلية.
ففي حوار مع الجزيرة نت، قال الأسير المحرر، وعضو المكتب السياسي لحركة حماس، وأحد مؤسسي كتائب القسام، زاهر جبارين، إن الروايات الإسرائيلية عن السنوار والأسرى عمومًا تتراوح بين التشويه والمبالغة. قضى جبارين أكثر من 15 عامًا في السجن مع يحيى السنوار ويقول إنه التقاه لأول مرة في الغرفة رقم 4 في سجن بئر السبع عام 1995.
ويوضح جبارين أن الادعاءات الإسرائيلية حول تعامل المقاومة، أو جهاز مجد، مع الذين يُشك في كونهم عملاء للاحتلال أبعد ما تكون عن الحقيقة. لأن الجهاز لم يكن يعمل بشكل فردي، ولم يكن التعامل مع أي مشتبه فيه يؤخذ بقرار منفرد، وإذا حدث خطأ، يُحاسب المخطئ ويُعاقب. “هناك عشر خطوات وأحيانًا اثنتي عشرة خطوة للتحقق من كون الشخص المشتبه فيه متعاونًا مع الاحتلال، وبعدها يُجرى تحقيق من خلال جهاز محترف”.
وبعد محاكمة لم تطل كثيرًا حاول السجان فيها كسر إرادة السنوار ودفعه إلى الندم، لم يجد القضاة بدا من الحكم عليه بالسجن أربعة مؤبدات بتهمة قتل أربعة فلسطينيين مشتبه في تعاونهم مع الاحتلال، وكان مجموع ما حُكم عليه به 426 عامًا. فماذا كان جواب السنوار؟ دراسة إسرائيل، وإعداد الأسرى، وبالطبع، إكمال عمله في محاربة العملاء!
حاصر حصارك، لا مفر!
توقف السنوار عن قتل العملاء في السجن، لكنه لم يتوقف عن محاربتهم فقد وجه جهده لتعليم الأسرى كيف يلاحقونهم، ولم يتوقف عن فهم العقلية الإسرائيلية. تفرغ السنوار لدراسة المجتمع الإسرائيلي وقادته ونفسيته.
قرأ مذكرات قادة الاحتلال، وتعلم اللغة العبرية، وفضل التحدث بها مع الإسرائيليين حتى لو كانوا يتحدثون العربية، ودرس في الجامعة عبر المراسلة، وتابع الجرائد والأخبار اليومية، و”كان مدمنًا على القنوات الإسرائيلية”، بحسب مسؤول سابق في مصلحة السجون الإسرائيلية تحدث لصحيفة بلومبرغ.
بعد خروج السنوار من العملية التي أجراها في 2004، أجرى مقابلة في السجن مع الصحفي يورام بينور من التلفزة الإسرائيليّة، تحدث فيها عن إمكانيّة إيجاد هدنة، وعن إدراكه لقوة إسرائيل النووية. بعد المقابلة أخبر السنوار طبيبه يوفال بيتون، أن على إسرائيل ألا تغتر بقوّتها لأنها كيان هشّ، وقال له “خلال عشرين عامًا ستتصاعد حدة الخلاف بين العلمانيين والمتدينين في المجتمع الإسرائيلي، وستضعف الدولة. وحينها سأغزوكم!” كما يتذكر بيتون.
أما رفيقه في السجن زاهر جبارين، فقال لنا إن السنوار لم يدرس الثقافة والفكر والسياسة الإسرائيلية فحسب، بل درس الدين اليهودي، والنصوص التلمودية، وكان على اتصال دائم بالعالم من خلال القنوات التلفزيونية، وتحديدًا قناة الجزيرة التي كان يتابعها باستمرار، وأقبل على القراءة في مكتبات السجن التي تصل إليها الجرائد والصحف والكتب، وعبر الهواتف المهربة للتواصل مع الخارج.
كذلك لم يتوقف جهد السنوار في تعليم الأسرى المسائل الأمنية، بل كان يعلمهم قواعد اللغة العربية والنحو وفن الخط العربي، ويقول جبارين إنه كان يعلم الأسرى اللغة العبرية كذلك، وكان يمتاز بحسن توصيل المعلومات.
ويصف الأسير المحرر تيسير سليمان، الذي سُجن مع السنوار عامين في النصف الأول من التسعينيات، برنامجه في السجن فيقول إنه كان قارئا نهما ومشغولا دائما بإعداد الكراسات والبحوث الأمنية، وتقديم الدورات لتطوير قدرات الأسرى، حتى المحكوم عليهم بمؤبدات.
وقد حضر سليمان دورة أمنية قدمها السنوار، استمرت ستة أشهر، شارك فيها حوالي 40 أسيرًا، تناولت محاور عن “معرفة العدو، وسبل تشكيل الخلايا، وطرق تخزين الأسلحة، ومبادئ المحافظة على السرية التامة للعمل المقاوم، وأساسيات مراعاة العوامل الجغرافية لأماكن تنظيم العمل العسكري”.
ومن أكثر الأمور لفتًا للنظر، استثمار الأسرى في التعلم داخل المؤسسات الإسرائيلية. فقد أقبل الأسرى، والسنوار أحدهم، على الانضمام إلى برامج الدراسات العليا في الجامعات الإسرائيلية المفتوحة، التي تكلف الدراسة في بعضها 250 ألف دولار، وتساهلت بعض إدارات السجون مع مطالب الأسرى في الحصول على الكتب الدراسية والتعليمية. وكلها حقوق حيزت بعد نضال طويل خاضته أجيال متتابعة من الأسرى في سجون الاحتلال، بحسب جبارين.
عادت هذه المعرفة بالنفع على مجتمع الأسرى، بل وعلى المجتمع الفلسطيني بأسره. فقد استخدم السنوار معرفته بالعبرية لتأليف عدد من الكتب وترجمتها في مجالات السياسة والأمن والأدب، مثل ترجمة كتاب “الشاباك بين الأشلاء”، لكارمي جيلون، وهو كتاب يتناول جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي. كذلك ترجم السنوار كتاب “الأحزاب الإسرائيلية عام 1992″، الذي يعرف بالأحزاب السياسية في دولة الاحتلال وبرامجها وتوجهاتها خلال تلك الفترة.
كذلك ألف السنوار رواية “الشوك والقرنفل”، وكتيّبا عرف فيه بأحد رفاقه الأسرى الذين نفذوا عملية عسكرية وهو “أشرف البعلوجي”، وهما إسهامان أدبيان منه في جهود توثيق السردية الفلسطينية، وألف كتاب “المجد” الذي يرصد عمل جهاز “الشاباك” في جمع المعلومات وزرع وتجنيد العملاء، وأساليب وطرق التحقيق الوحشية من الناحية الجسدية والنفسية، إضافة إلى تطور نظرية وأساليب التحقيق والتعقيدات التي طرأت عليها وحدودها، وألف دراسة نقدية غير منشورة بعنوان “حماس: التجربة والخطأ”، تناول فيها تجربة حركة المقاومة الإسلامية في العمل الأمني والعسكري بالنقد والتمحيص.
وأخيرا بعد طوفان الأقصى وغرام الإعلام الإسرائيلي بتتبع تفاصيل حياة السنوار كشفت كيتي بيري، رئيسة مصلحة السجون الإسرائيلية السابقة أن يحيى السنوار ترجم في سجنه كتابين لرئيسين سابقين لجهاز الشاباك، أحدهما ليعقوب بيري وعنوانه “القادم لقتلك”، والثاني لكرمي غيلون، عنوانه “الشاباك بين الانقسامات”، وجدير بالذكر أن كتب السنوار التي رأت النور أُلِّفت “خاوة” رغمًا عن أنف السجان.
و”دأب العشرات لنسخها ومحاولة إخفائها عن أعين الجلادين وأياديهم الملوثة، وبذلوا جهدا جبارا في ذلك، وعملوا عمل النمل لإخراجها إلى النور” كما كُتب على غلاف “الشوك والقرنفل”.
تشير هذه المؤلفات والممارسات وغيرها إلى أن السنوار كان يتمتع بحالة عالية من الاستقرار النفسي لسجين محكوم عليه بمؤبدات؛ ولذلك فمن غير المبالغة القول إن يحيى السنوار استطاع أن يحاصر سجانيه على وجه من الوجوه، وأن يسيطر على رؤيتهم له، بقدرة ملفتة للنظر.
ترتبط هذه القدرة بنظام نفسي تبناه سجناء المقاومة، جعلهم، على نحو ما، يقدمون استجابات نوعية وغير معتادة لدى غيرهم من السجناء الجنائيين أمام سجانيهم وأدواتهم. أهمها قدرة السجين المقاوم على امتصاص الضغوط والأحداث القاسية التي تتوالى عليه، دون أن تنجم عنها آثار نفسية عميقة.
بل لعل بإمكان الكثير منهم إنتاج معنى روحي يرشح من كل الآلام التي يمرون بها، يجعلهم يشعرون بالكفاءة الشخصية والندّية العقلية حين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أنداد قادرون على الاشتباك، وإرباك كلّ هذه النظم العقابية، والأجهزة الأمنية، ويفخرون بتصنيفهم أشخاصًا شديدي الخطورة من قبل أعدائهم. تمكنت المقاومة من جعل السجن ضمن استراتيجية لتجذير التحدي بوصف الأسر مرحلة ضرورية لبناء الصلابة النفسية وإعداد الذات وتحضيرها للمواجهة الكبرى.
لم يعبأ السنوار كثيرًا بالنظم الداخلية للسجون بقدر رغبته في إظهار الندّية والكفاءة للأعداء والعملاء. وظل ينظر إلى السجن باعتباره صورة مصغرة للمجتمع الإسرائيلي، ورغم طول المدة التي مكثها في السجون فإنه ظل متمسكا بنظرته إلى السجان باعتباره عدوًّا لا موظفًا.
فالعلاقة مع سدنة السجون في السياقات السلطوية قد تتذبذب مع تغير الأحوال، كما تتجه بحكم الأنظمة المؤسسية وإجراءاتها اليومية لتصبح نمطا من أنماط التطبيع والمعايشة والاعتياد، أما العلاقة مع العدو، حتى لو كانت متلاصقة ويومية، فلن تعدو كونها فرصة للمعرفة، وهدنة للبحث ودراسة نقاط القوة والضعف. فلأمثال السنوار، يتحول السجن إلى مدرسة، وتغدو أنظمته القسرية تجربة ممتدة لمعرفة كيفية كسر قواعدها.
بل أكثر من المدرسة، إذ يجوز القول إن السجن رفيق كل نضال ثوري، وحليف كل صاحب قضية، وقد يغدو السجن جزءًا من استراتيجية المقاومة، لا مجرد مخاطرة ضرورية. وهذه الاستراتيجية تجعل من السجون محاضن تجنيد وتدريب وتربية وإعداد.
قال الشيخ أحمد ياسين في حوار مع الجزيرة عُرض نهاية التسعينيات إن السجن قد يكون للمقاوم المؤمن “متعة” في الخلوة والترقي الروحي، بل إن الشيخ كان قد تمنى في حوار مع صحيفة آفاق عربية المصرية في سنوات الانتفاضة الثانية أن يجرب أبناء الحركة الإسلامية جميعًا السجن، كي تُكسر رهبته في نفوسهم!
لا يمكن النظر إلى مخاطرة السجن باعتبارها حائلًا دون المُضي في التغيير أو سببًا للتوقف عن النضال، ومهما كان النشطاء أو المقاومون حذقين في أدواتهم ووسائلهم، فإن احتمالات تعرضهم للسجن، أو ما هو أسوأ، تظل حاضرة طوال الوقت.