إرث ديغول.. صبَغ سياسة فرنسا بالاستعلاء واعتذر لليهود واحتقر العرب | سياسة
رغم الجرائم التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر وغيرها من المستعمرات خلال حكم الجنرال شارل ديغول، فما زال الساسة الفرنسيون يتمثلون شخصيته ويعظمون ذكراه، فما السر الذي ميزه حتى ظهر في فرنسا ما يُعرف بالاتجاه الديغولي؟
في كتابه “إنهاء الاستعمار البريطاني الفرنسي وتداعياته على العلاقات الدولية” الصادر سنة 1984 يعرف أستاذ العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا ميلز كاهلر الديغولية بأنها موقف سياسي فرنسي يقوم على فكر وممارسة زعيم المقاومة الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية الجنرال شارل ديغول، الذي أصبح في ما بعد الرئيس المؤسس للجمهورية الفرنسية الخامسة.
ووفقا لكاهلر فقد فرض ديغول سحب قواعد قوات الحلفاء من فرنسا وأطلق إستراتيجية نووية فرنسية خاصة، وكرس كل جهوده للعمل على استقلال السياسة الفرنسية بحيث لا تكون بلاده تابعة لأي دولة أخرى.
وقد تجسدت تلك الاستقلالية -حسب الدارسين- في محاولته النأي بفرنسا عن الدخول تحت المظلة الأميركية في سياساتها الخارجية، بل سعى ديغول فضلا عن ذلك لأن تختط أوروبا لنفسها نهجا مستقلا عن المسار الذي تسلكه الولايات المتحدة.
نشأة الديغولية وتطورها
ويعتبر الباحث تاندوني أن نداء 18 يونيو/حزيران 1940 الذي أطلقه الجنرال ديغول ودعا فيه لرفض الهدنة مع النازية والدعوة لمقاومة الألمان يعد بالنسبة للفرنسين رمزا للأمل والانبعاث الوطني، وهو النداء الذي جاء بعد أن بدا لهم أن كل شيء قد ضاع وإلى الأبد. وشكل ذلك النداء بداية ما ستُعرف بالديغولية التي تمثل -حسب هاكلر- الظاهرة السياسية الفرنسية الأبرز خلال القرن الـ20.
ويمكن الحديث -حسب المؤرخين- عن 4 مراحل مرت بها الديغولية:
- المرحلة الأولى (1940-1945)
تجسدت الديغولية خلال تلك الفترة في رفض الجنرال ديغول اتفاق الهدنة الذي وقعه المارشال الفرنسي بيتان مع ألمانيا النازية، حيث لجأ ديغول إلى لندن ومنها أطلق نداءه الشهير يوم 18 يونيو/حزيران 1940 ودعا فيه إلى مواصلة المعركة ضد الألمان قائلا “أيها الفرنسيون، لقد خسرنا معركة ولكننا لم نخسر الحرب، وسوف نناضل حتى نحرر بلدنا”.
وعمل على إنشاء “قوات فرنسا الحرة” التي قاتلت إلى جانب قوات الحلفاء لتحرير فرنسا من قبضة النازية، ليدخل ديغول باريس عام 1945 بطلا قوميا، ويتم تكليفه برئاسة الحكومة.
- المرحلة الثانية (1946-1958)
كانت الديغولية حينها نوعا من المعارضة ضد الجمهورية الفرنسية الرابعة بعد استقالة ديغول من الحكومة على إثر خلافات مع الأحزاب السياسية.
وخلال تلك المرحلة، تحدى الديغوليون الحكومة البرلمانية غير المستقرة للجمهورية الرابعة ودعوا إلى استبدالها بنظام رئاسي يتمتع فيه الرئيس بصلاحيات واسعة.
- المرحلة الثالثة (1958-1969)
تمثلت الديغولية خلالها في الدعم المقدم لسياسة ديغول بعد عودته إلى السلطة، إذ ترأس في البداية حكومة ذات صلاحيات واسعة أقرت دستورا جديدا مهد لولادة الجمهورية الخامسة، قبل أن ينتخب يوم 21 ديسمبر/كانون الأول 1958 رئيسا للجمهورية، ويعاد انتخابه عام 1965، ليستمر في الحكم حتى استقالته يوم 28 أبريل/نيسان 1969.
- المرحلة الرابعة.. ما بعد 1969
حينها أصبح مصطلح الديغولية يطلق على الأحزاب والشخصيات السياسية التي أعلنت تبنيها سياسات ديغول وحملها إرثه.
قومية واستعلاء
يرى الباحث ماكسيم تاندوني أن الساسة الفرنسيين بمختلف مشاربهم ينظرون لشارل ديغول باعتباره يمثل نوعا من الاستعلاء وجنون العظمة والنرجسية والتفاخر بالذات، وهي صفات صبغت السياسة الفرنسية منذ العهد الديغولي.
وتؤكد الباحثة الاجتماعية والسياسية الفرنسية دومينيك شنابر في دراسة لها تحت عنوان “ديغول في نظر اليهود” -نشرتها مؤسسة شارل ديغول في أكتوبر/تشرين الأول 2021 أن ديغول ينطلق في سياساته من مرجعية قومية تجعله أحيانا معاديا للعرب وأحيانا لليهود وأحيانا للأرمن وغيرهم، فقوميته الأساسية لا يمكن أن تترك مجالا لتقدير أو تعاطف مع أي شعب آخر، إذا رأى أن ذلك لا يخدم مصلحة فرنسا.
وترى الباحثة في هذا تبريرا لتصريحات ديغول خلال مؤتمر صحفي يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1967 التي وصف فيها اليهود بالشعب الميال للسيطرة والواثق من نفسه.
كما تستشهد الباحثة أيضا بتصريحات لديغول -أدلى بها للصحفي الأميركي سولزبيرغر عام 1956- وصف فيها العرب بأنهم شعب لم ينجح قط في تكوين دولة ولا حتى في بناء سد.
ويضيف ديغول أن “العرب يقولون إنهم اخترعوا علم الجبر وبنوا مساجد ضخمة، لكن ذلك كله كان بجهود العبيد المسيحيين الذين أسروهم، وقد حاولنا نحن الفرنسيين أن نفعل الكثير معهم، وحاولها الروس قبلنا، فهم لا يمكنهم أن يفعلوا شيئا بمفردهم”.
وفي تصريحات أخرى يوم 20 يناير/كانون الثاني 1962، يقول ديغول “عندما نتحدث عن العرب، لا نعرف أبدا ما الذي نتحدث عنه، ولا يمكننا التأكد أبدا مما نقوله، إنهم بدو فوضويون غارقون في خصوماتهم”.
اعتذر لليهود ولم يعتذر للعرب
وإن كانت الباحثة شنابر سعت إلى تبرير تصريحات ديغول ضد اليهود بمرجعيته القومية، بل ونقلت عنه اعتذاره عن تلك التصريحات، فإنها كشفت أنه يكيل بمكيالين، إذ لم تنقل عنه أي اعتذار للعرب الذين وصفهم أعلاه بأوصاف أشد إهانة مما وصف به اليهود، بل وارتكب في حقهم مجازر شنيعة في الجزائر مثلا.
فقد أوردت الباحثة في دراستها رسالة اعتذار وتوضيح بعثها ديغول يوم 30 ديسمبر/كانون الأول 1967 إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية حينها ديفيد بن غوريون حول تصريحات ديغول بشأن اليهود، وجاء فيها: “بالنسبة لردة الفعل التي أثارها أنني قلت إنهم (النخبة، الواثقون والمسيطرون)، واعتقد البعض أنه تحقير، فليس هناك أي ازدراء في التأكيد على تلك الشخصية التي بفضلها تمكن هذا الشعب القوي من البقاء والمحافظة على كيانه بعد 19 قرنا قضاها في ظروف لا تصدق”.
وفي يناير/كانون الثاني الموالي استقبل الجنرال ديغول الحاخام اليهودي الأكبر جاكوب كابلان، وبعد اللقاء نشر الحاخام بيانا جاء فيه أن ديغول عبر عن دهشته من ردة الفعل التي أثارها تصريحه حول الشعب اليهودي، معتبرا أن تصريحه تم تفسيره بشكل خاطئ، وأنه على العكس يعتبر ما قاله مدحا وتفسيرا لشجاعة اليهود”، حسب ما نقله الحاخام اليهودي عن ديغول.
ومن جانبه، يورد الباحث الفرنسي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط ألان غريش في دراسة نشرها في سبتمبر/أيلول 2017 على موقع أوريان21 أن ديغول عبر في المذكرات التي كتبها بعد عامين من تصريحاته بشأن اليهود عن ندمه على ما وصفه بالحماسة التي أخذته قائلا: “كان يجب، حتى في ذلك الظرف، أن أحتفظ ببرودة أعصابي… إنني عاطفي وانفعالي بطبعي”.
لم يعاد السامية
وتورد الباحثة الباحثة الفرنسية دومينيك شنابر في دراستها أن ديغول كان قد نصح تل أبيب بعدم بدء الحرب عام 1967، وذلك خلال استقباله وزير خارجية إسرائيل الذي زار فرنسا قبيل الحرب لاستطلاع موقفها، وهكذا ترى شنابر أن تصريحات ديغول كانت تعبيرا عن انزعاجه لـ”عصيان” إسرائيل له وتصاممها عن نصائحه.
وترى شنابر أن تصريحات ديغول عن اليهود والتحليلات السياسية التي أعقبتها والحماسة التي تلقاها بها العرب أعطت انطباعا لليهود بأن فرنسا تتبنى وجهة نظر الدول العربية بشكل كامل، وهو ما حدا بمعظم اليهود لاتهام ديغول بمعاداة السامية.
وتورد أن الصحافة الفرنسية في معظمها تبنت وجهة النظر الإسرائيلية فانتقدت تصريحات ديغول واعتبرت أن فيها معاداة للسامية، لكن هذا الاتهام سيدحضه بن غوريون نفسه في رسالة وجهها لديغول.
يقول بن غوريون “لقد امتنعتُ عن ضم صوتي لصوت عديد من الناس في فرنسا وإسرائيل وبلدان أخرى، الذين وجهوا نقدا مُجحفا لما ورد على لسانكم لأنهم لم يتمعنوا في العبارة المذكورة بالجدية المطلوبة”.
ويتابع “وبما أنني كنت رئيس حكومة إسرائيل في عهد الجمهورية الخامسة، فأنا أعرف أن علاقات الصداقة مع فرنسا منذ إعادة ولادة دولة إسرائيل قد تواصلت حتى خلال الجمهورية الخامسة، وما من حاجة لدي أن أنتظر صداقة أكثر وفاء وأكثر صدقا من صداقتك”.
ويعتبر غريش أن إعجاب ديغول بإسرائيل قديم يشهد له به سفيرها في باريس جاكوب تسور، الذي استقبله ديغول يوم 28 نيسان/أبريل 1955، وصرح جاكوب تسور بعد الاستقبال بالقول: “لقد قال لي ديغول إنه يعتبر قيام الدولة اليهودية ضرورة تاريخية، وإن من حق الشعب اليهودي أن ينتظر التعويض عن الظلم الذي كان ضحيته طيلة قرون”.
البراغماتية في التعامل مع القضايا العربية
إذا كان ديغول -كما أورد الباحث ألان غريش- قد سارع بإدانة مبادرة إسرائيل بالهجوم خلال حرب الأيام الستة واحتلالها الأراضي العربية، فإن محللين يعتبرون أن موقفه ذلك لم يكن موقفا مبدئيا ضد إسرائيل، بل براغماتيا لكسب تأييد العرب.
وتعتبر شنابر أن ديغول سعى من خلال إظهار رفضه الاحتلال الإسرائيلي إلى التقارب مع الدول العربية وتحسين صورة فرنسا لدى العرب والمسلمين بعد أن شوهتها الجرائم التي اقترفتها في الجزائر.
وبشكل أكثر شمولية، ودّ ديغول لو تصبح فرنسا حامية للعالم الثالث وأن تؤكد استقلالها عن “الأنجلوسكسونيين”، لذا تقول الباحثة شنابر إنه كان لا بد أن تخفي فرنسا بعضا من تحالفها الوثيق مع إسرائيل، باعتبار ذلك التحالف يمثل عقبة أمام سياسة ديغول العالمية.
وترى الباحثة أنه بالنظر لما سبق، فلا يمكن بحال من الأحوال اعتبار موقف ديغول من حرب 1967 مؤشرا على عداء مبدئي لإسرائيل أو اليهود.
مواقف مناهضة لأميركا
يتفق الدارسون أنه كانت لشارل ديغول مواقف مشهودة مناهضة للموقف الأميركي، ومن ذلك وصفه السياسة الأميركية بالإمبريالية، وزيارته عام 1966 للاتحاد السوفياتي وسعيه للتقارب معه، واعترافه بجمهورية الصين الشعبية وإقامة علاقات معها.
بالإضافة إلى مناهضته الحرب الأميركية في فيتنام، وسعيه لإبعاد بريطانيا عن السياسة الأوروبية، نظرا لدخولها الكلي تحت العباءة الأميركية.
نجاح في زمن الحرب
اعتبر الكاتب السياسي الفرنسي ألان دوهاميل -في مقال نشرته صحيفة ليبراسيون الفرنسية في يونيو/حزيران 2010- أن الديغولية نجحت بالأساس في زمن الحرب وأن نجاحها في زمن السلم ظل محدودا.
ويعطي دوهاميل أمثلة على ذلك بصعود ديغول خلال الحرب العالمية الثانية، مما مكنه من رئاسة الحكومة وفشله في الاستمرار في الحكم بعد نهاية الحرب واضطراره للاستقالة، وفشل الحزب الذي أسسه يومها في الحصول على مكانة في المشهد السياسي الفرنسي، مما اضطر ديغول للاختفاء سياسيا.
وهنا يؤكد الكاتب السياسي دوهاميل أن ديغول سيجد مرة أخرى في الحرب فرصة للعودة للواجهة، وذلك بعد اندلاع الثورة الجزائرية، ليستمر في السلطة نحو 11 عاما قبل أن يضطر للانسحاب من السلطة من جديد، على وقع الاحتجاجات ورفض الفرنسيين سياساته.
ويعتبر دوهاميل أن البصمة التي تركتها الديغولية تبدو غير متكافئة بشكل غريب، فإذا كانت الديغولية قد أثرت بقوة في المجتمع السياسي، فإن تأثيرها على المجتمع المدني كان ضئيلا.
الديغولي الثاني
يتفق الباحثون أن الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو (1969-1974) الذي خلف ديغول في الحكم سار على نهجه، إذ كان من المقربين سياسيا وفكريا من سلفه وولاه رئاسة الحكومة، لكن الرئيسين اليميني جيسكار ديستان وبعده الاشتراكي فرانسوا ميتران سلكا مسارين مختلفين عن الاتجاه الديغولي.
غير أن ديغوليا آخر سيصعد إلى السلطة عام 1995 وهو جاك شيراك الذي سيتبنى مواقف ديغولية واضحة مناهضة للموقف الأميركي، خصوصا في ما يتعلق بالحرب على العراق والحرب على ما يسمى الإرهاب.
ويرى الباحثون أنه مع رئاسة نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند وصولا إلى الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون بدأ الانسلاخ التدريجي من الخط الديغولي.
ماذا بقي من الديغولية؟
في سعيه للإجابة عن سؤال “ماذا بقي من الديغولية؟” يعتبر الكاتب السياسي الفرنسي ألان دوهاميل أنه رغم أن الكل اليوم يعلن تبنى الديغولية بما في ذلك ساسة اليسار والوسط الذين كانوا خصوما لها من قبل، فإنه في الحقيقة لم يعد هناك أي شيء له علاقة بالديغولية.
وعلى المنوال ذاته ينحو الباحث ماكسيم تاندوني، فينتقد ما يعلنه كبار السياسيين اليوم من تبن للديغولية، معتبرا أنه لا يخلو من نفاق، إذ يرى أن تكريم ذكرى الجنرال أمر مقبول، لكن الحديث عن التماثل معه أمر سخيف وبلا معنى.